ميدي 24 / هيئة التحرير
لم يكن أحد يتوقع أن يتحول الشعار البسيط الذي رفعه شباب الحراك جيلz “إصلاح الصحة والتعليم” إلى كابوس يطارد حكومة فقدت الإحساس بنبض الشارع، خرج الآلاف من الشباب إلى الفضاءات الرقمية، ثم إلى الشوارع، بعدما سئموا وعودا متكررة وخطابات منمّقة لا تلامس واقعهم، ولم يكن ينقص المشهد سوى الفاجعة التي فجّرت الصمت: وفاة عشر نساء حوامل دفعة واحدة في مستشفى أكادير، لحظة مأساوية تحولت إلى الشرارة التي أطلقت موجة احتجاجات عارمة امتدت إلى مختلف المدن، بعد تراكم سنوات من الإهمال والعجز وسوء التدبير.
الناس لم يخرجوا فقط غضبا من حادث مأساوي، بل من منظومة بكاملها فقدت معناها الإنساني، فكل مواطن صار يعرف أن دخوله المستشفى في المغرب هو مخاطرة غير مضمونة العواقب، وأن حجز سرير أو طبيب أو حتى الاهتمام أصبح امتيازا لا حقا، ورغم ذلك، اختارت الحكومة الصمت، كأن الأرواح التي أزهقت لا تعنيها، وكأن المأساة حدثت في كوكب آخر.
وحين بدأ الغضب يتسع، قررت بعض العقول في مختبر التواصل الحكومي أن الحل بسيط: نحتاج إلى خرجة تلفزيونية، وفعلا، ظهر الوزير، وبكل شجاعة، على إحدى القنوات العمومية، لم يكن المهم ما قاله أو ما قدّمه للقطاع، بل المهم أنه “تواصل”، مجرد ظهوره على الشاشة صار عند البعض إنجازا يضاهي بناء المستشفيات أو تجهيزها، خرج الوزير متألقا، بابتسامة محسوبة، وصوت مطمئن، وجمل مصاغة بعناية لتقنع المتعبين بأن الأمور تحت السيطرة.
وفجأة، انقلبت موازين الإعلام. المنابر التي كانت بالأمس تهاجم، صارت تبارك وتصفق، الوجوه المعروفة بولائها لحزب الأحرار تنافست في نشر صور الوزير، وكأن الرجل أنقذ البشرية من وباء، أما المنابر التي طالما رفعت شعار “الاستقلالية”، فقد غيّرت نغمتها هي الأخرى: “الوزير تواصل مع الشعب بشجاعة نادرة”، “خطابه كان بلسما على جراح عائلات الضحايا”، وكأنّ الكلمات أصبحت دواء يحيي الأمل في أقسام الولادة المهترئة وغرف المستعجلات الفارغة.
ولأن السخرية قدر هذا الوطن، صارت جولة الوزير بين المستشفيات حدثا بطوليا، لا أحد يسأل عن نتائجها، ولا عن التقارير، ولا عن المحاسبة، المهم أن الوزير تكبّد عناء السفر ووقف أمام الكاميرا، هذا وحده كاف لأن يضمن له مكانة في نادي المنقذين بالتصريحات.
الوزير لم يُكمل سنته الأولى على رأس القطاع، لكنه أثبت أنه خبير في كل شيء، إلا في الصحة طبعًا. يعرف كيف يُدير صورته، وكيف يختار الكلمات، وكيف يُشعل مواقع التواصل بالثناء، لكن من يحتاج إلى معرفة عدد الأطباء أو أجهزة الإنعاش حين يكون لديك جيش من المصفقين والإعلاميين الذين يحولون كل إخفاق إلى بطولة؟.
المدهش في الأمر أن الحكومة، التي تعيش أشهرها الأخيرة، لم تتعلم شيئا من دروس السنوات الماضية، تتعامل مع الغضب الشعبي كمن يُطفئ النار بالعطر، لم تدرك أن المشكل أعمق من التواصل، وأن الناس لم يعودوا يصدقون “الحلول التلفزيونية” ولا الجولات المفاجئة ولا صور الوزراء وهم يبتسمون وسط الخراب، فالشعب الذي فقد الثقة في المؤسسات الوسيطة، لم يفقد ثقته في المؤسسة الوحيدة التي بقيت ثابتة وسط هذا الاضطراب: الملكية.
فالملك، كما أثبتت كل الأزمات، هو الضامن الحقيقي للاستقرار، والمرجع الذي يثق فيه المغاربة حين تغيب الكفاءة ويغيب الحس بالمسؤولية.
طبع الحراك الاجتماعي أجواء سلمية لأن المغاربة، رغم غضبهم، يعرفون حدود اللعبة: يرفضون التسيب، لكنهم يرفضون أيضا الاستخفاف بعقولهم. يريدون دولة جادة، لا وزراء يجيدون الظهور التلفزيوني أكثر مما يجيدون الإصلاح.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائما، ما دامت هناك ملكية تؤمن أن كرامة المواطن أساس التنمية، وأن الصحة والتعليم ليسا شعارين لحملة انتخابية، بل شرطين لبقاء الوطن في طريقه نحو الغد.